
د.أمير السقطري
كنتُ دائمًا أؤجِّل انفجاراتي الداخلية، أُخفيها بين ضلوعي كقنابل صامتة، وأؤخر أسئلتي الكبرى خوفًا من أن تفتك بي الإجابة.
كنتُ أهرب من مواجهة نفسي، وأبعد عن عقلي السؤال القاسي: وماذا بعد؟
تعاملتُ مع الحياة كما لو كانت محطات قطارٍ عابرة، أركبها وأغادرها بلا شغف، بلا انبهار، بلا أن أتوقّف طويلًا عند أي مشهد…
حتى جئتُ إلى سقطرى.
جئتُ إلى الجزيرة كالحلم الذي يقتحم عمر المرء كله، كاللحظة التي تُشعل أركان الظلام، كريحٍ مُحبّة تقلب الروح رأسًا على عقب.
الفجر يتسلّل بخفة عبر السهول الصخرية، يكسو الصخور بألوانٍ تئنّ من عراقة الزمن، وكأن الجزيرة نفسها تتنفس ببطء.
حمدهن وقف على حافة المنحدر، ينظر إلى الأفق حيث تتراقص شمس الصباح على مياه الخليج، فتشعر روحه وكأنها تمتدّ وتذوب بين السماء والبحر.
منذ أن رأيتُها – الجزيرة – وأنا بين “أريد” و”لا أريد”.
بين يدٍ تمتدّ إلى الجمال الذي يفيض من كل زاوية، وروحٍ تتردّد في الاقتراب أكثر، خشية أن تذوب في عظمة المكان احتراقًا.
أحبّ أن أحبّها، وأخشى أن أعلن ذلك، كأنّ الكلمات لا تحتملها، وكأنّ الحبّ نفسه يخشى أن يُكشف.
اقتربت من شجرة دم الأخوين، تلك الشجرة الأسطورية التي يقال إن دمها يحمل ذكريات الأجداد، أسرار الجزيرة، وروحها.
لمس جذعها بيده، وشعر بنبضٍ غريب يسري في عروقه، كأن الجزيرة نفسها تهمس له: “هذه أرض لا تُنسى، هذه أرض لا تُفهم إلا إذا صمت قلبك واستمع”.
أحيانًا أشعر أن روحي تُسحب من قدميّ، وتصعد شيئًا فشيئًا حتى تصل إلى رأسي، وتبقى معلّقة هناك… لا تموت ولا تحيا.
إنه شعور عجيب، مُرهق وحلو في آنٍ واحد.
أحيانًا يثقُلني كصخرة على صدري حتى أكاد أنهار، وأحيانًا يرفعني عاليًا حتى أشعر وكأني ملكتُ الدنيا كلّها لمجرّد أني بين أحضان هذه الجزيرة.
في كل خطوة، وكل نفس، وكل صمت، كنتُ أدرك أن الحب لا يقتصر على البشر.
يمكن أن يكون للروح، للأرض، للطبيعة، للحياة نفسها.
كل شيء هنا يُحاكي القلب: صخورها، أشجارها، بحرها، وسماءها.
وكل شيء يجعلني أرغب في البقاء إلى الأبد، أتنفس كل لحظة، أستمع لكل همسة، أعي كل نفسٍ يمر بي.
ليلاً، عندما تنخفض الشمس خلف الجبال، ويختبئ البحر في ظلامٍ كثيف، كنتُ أتأمل السماء، أرى النجوم تتلألأ كحبات المسبحة القديمة، وأشعر بالخلود يتسلّل إلى روحي.
الجزيرة تمنحني القدرة على رؤية ما وراء العيون، ما وراء الكلمات، ما وراء الأيام… وتجعل قلبي ينبض بالدهشة، بالخوف، وبالبهجة في آن واحد.
كل ما فيّ يتجه نحوها: دمي، أنفاسي، خطواتي، حتى صمتي حين يطول، حتى حزني حين يثقل… كلّه يسافر إليها.
هي التي جعلتني أكتشف أن الحبّ ليس مجرد شعور، بل نشوة تُعانق الروح، ولهفة تتسلّل في الدم، ورعشة تُربك الجسد، وحنين يُشبه التيه في صحراء بلا نهاية.
إنني أقف على أعتابها، لا أدري إن كنتُ قادرًا على أن أخطو خطوة أخرى، أو أن أرجع إلى الوراء.
أقف مذهولًا، مسحورًا، مأخوذًا بهذا الشعور الذي لا يُشبه أي شعور آخر. أقف وكأنني على حافة نهرٍ عظيم؛ أريد أن أغرق فيه وأخشى الغرق، أريد أن أرتوي وأخشى عطشًا آخر بعده.
سقطرى في داخلي كالموسيقى التي لا تنتهي، كالحلم الذي أرفض أن أستيقظ منه.
وكل ما فيها أصبح صلاةً صامتة في قلبي، وكل لحظة فيها دعاء صادق، وكل نسمة من هوائها إيمان بأن الحياة ما زالت حية، وأن الحب موجود، حتى لو كان بين قلبي وسقطرى.
المصدر: صفحة الكاتب على فيس بوك