الجنوب اليمني: تحليل - خاص
تشكل الحدود السعودية اليمنية، الممتدة لأكثر من 1400 كيلومتر، الخاصرة الرخوة والهاجس الأمني الأبرز في تاريخ الدولة السعودية الحديثة. وفي قلب هذه الجغرافيا المعقدة، تبرز منطقة “الوديعة” ومثلث “العبر” الاستراتيجي كعقدة جيوسياسية حاكمة، تتجاوز في أهميتها مجرد كونها نقطة عبور حدودية أو مخفرا جمركيا. إنها تمثل نقطة التماس الحرجة بين “القلب الصلب” للجزيرة العربية (السعودية) و”الأطراف المضطربة” (اليمن)، وهي المنطقة التي تختبر فيها الرياض دائما صلابة نفوذها وقدرتها على حماية عمقها الاستراتيجي.
إن المقاربة التفصيلية لما يجري اليوم في عامي 2024 و2025 من تصعيد عسكري غير مسبوق في هذه المناطق بين وكلاء محليين متصارعين (قوات درع الوطن المدعومة سعوديا، والمجلس الانتقالي الجنوبي المدعوم إماراتيا)، لا يمكن أن تستقيم دون استدعاء الذاكرة التاريخية لحرب الوديعة عام 1969. ففي تلك الحرب، تشكلت “العقيدة الدفاعية” السعودية تجاه الجنوب، والتي تقوم على مبدأ “عدم السماح بقيام قوة معادية أو منافسة على حدود الربع الخالي”. وإذا كان العدو في 1969 يحمل أيديولوجيا يسارية عالمية (الشيوعية)، فإن التحدي في 2025 يأتي من حليف مفترض يحمل مشروعا محليا (الانفصال) يهدد بعزل السعودية عن بحر العرب وتقويض نفوذها في حضرموت.
لم تكن حرب الوديعة التي اندلعت في أواخر خريف 1969 مجرد مناوشات حدودية تقليدية بين دولتين جارتين، بل كانت صداما بين مشروعين نقيضين في ذروة الحرب الباردة العربية والدولية. كانت تلك اللحظة هي التي أيقظت الرياض على حقيقة أن الصحراء الشاسعة التي تفصلها عن اليمن ليست حاجزا طبيعيا آمنا، بل مسرح عمليات مفتوحا يتطلب يقظة دائمة وتدخلا حاسما.
عقب انسحاب بريطانيا من عدن عام 1967، ورثت “الجبهة القومية للتحرير” السلطة في الجنوب، معلنة قيام “جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية” (التي أصبحت لاحقا الديمقراطية الشعبية). تبنى النظام الجديد الماركسية اللينينية، وأقام تحالفا استراتيجيا مع الاتحاد السوفيتي، مما جعل الاتحاد السوفيتي يمتلك موطئ قدم استراتيجي في باب المندب وجنوب الجزيرة العربية.
أسست حرب الوديعة لما يمكن تسميته بـ “عقدة الوديعة” في العقل الاستراتيجي السعودي، والتي تضمنت المبادئ التالية:
أولوية الأمن الحدودي: أدركت الرياض أن أمنها الداخلي يبدأ من استقرار وضبط المناطق الحدودية اليمنية، خاصة محافظتي حضرموت والمهرة. هذا دفعها لاحقا لتبني سياسة توطيد العلاقات مع المحيط القبلي ومنح الجنسية السعودية لآلاف من أبناء قبائل الصيعر والكثر والكرب ونهد القاطنين في الشريط الحدودي، لخلق “منطقة عازلة بشرية” تدين بالولاء للرياض.
التعامل مع الجنوب كتهديد: ترسخت قناعة بأن أي نظام قوي ومستقل في الجنوب يمثل تهديدا محتملا، مما جعل السياسة السعودية تميل تاريخيا لدعم الوحدة اليمنية (بشروطها) أو إبقاء الجنوب في حالة ضعف مسيطر عليه.
الحاجة للقواعد العسكرية: بعد الحرب، شرعت السعودية في بناء بنية تحتية عسكرية ضخمة في شرورة والوديعة، وحولتها من مراكز حدودية بدائية إلى قواعد عسكرية متقدمة تضم مطارات ومعسكرات قادرة على استيعاب حشود ضخمة، وهو ما نراه اليوم في أزمة 2025.
صراع الحلفاء في “مثلث العبر”
في تكرار ساخر للتاريخ، عادت الوديعة ومناطق العبر لتكون بؤرة الصراع في عامي 2024 و2025. لكن المفارقة الكبرى تكمن في هوية المتصارعين. فبدلا من “السعودية ضد الشيوعيين”، نشهد صراعا شرسا داخل “المعسكر المناهض للحوثيين”، وتحديدا بين المملكة العربية السعودية (عبر وكلائها) ودولة الإمارات العربية المتحدة (عبر وكلائها)، في صراع نفوذ جيوسياسي للسيطرة على “حضرموت الكبرى”.
الفاعلون الجدد: درع الوطن والقبائل المساندة للشرعية المدعومون من السعودية vs المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيا.
عند وضع الحربين (1969 و2025) تحت المجهر التحليلي، نجد أن التاريخ يعيد إنتاج الهواجس السعودية، ولكن بأدوات واستراتيجيات مختلفة.
إن المعركة الدائرة اليوم في صحراء العبر ليست مجرد صراع على نقطة تفتيش أو بئر نفط؛ إنها الفصل الأحدث في صراع طويل الأمد لتحديد “من يملك مفاتيح جنوب الجزيرة العربية؟”. وكما دفنت رمال الوديعة طموحات “جمهورية اليمن الديمقراطية” في 1969، فإنها قد تكون المقبرة التي تدفن فيها طموحات “المجلس الانتقالي” في السيطرة على كامل الجنوب.

