الجنوب اليمني:
لم تكن رحلة المواطن العُماني، محمد حمود السعيدي، إلى عدن في سبتمبر الماضي، مجرد زيارة عابرة لمدينة كان يراها بيتاً ثانياً، بل تحولت إلى كابوس مظلم طال أربعة أشهر كاملة من التعذيب المنهجي والإخفاء القسري، في سجون سرية تشرف عليها ميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي، وتديرها أيادٍ إماراتية مباشرة، وفقاً لتقرير استقصائي مفصّل نشرته منصة “أبناء عدن”.
التقرير، الذي اعتمد على شهادات لم تكن قد نُشرت من قبل، يسلط الضوء ليس فقط على جريمة التعذيب، بل على آلة قمع منهجية تديرها قوى خارجية بعيداً عن أعين القانون والرقابة الدولية.
من باب الفندق إلى أقبية التعذيب
في مساء الثالث عشر من سبتمبر ٢٠٢٤، داهمت قوات من “الحزام الأمني” التابع للمجلس الانتقالي، غرفة السعيدي في أحد فنادق عدن، دون سند قضائي أو إجراء قانوني واضح. اقتيد الرجل، الذي كان يحمل في جعبته ذكريات طيبة عن المدينة وأهلها، إلى مكان مجهول. لم تكن تلك هي المحطة الوحيدة، بل كانت محطة البداية في رحلة العذاب.
ونُقل السعيدي فور اختطافه إلى سجن معسكر النصر، الذي تشير التحقيقات إلى أنه يخضع لإدارة الميليشياوي جلال الربيعي، المقرب من الإمارات. وهناك، بدأت جلسات “الاستجواب” التي لم تكن سوى ستاراً لممارسات تعذيب وحشية، جسدية ونفسية، استمرت لعدة أيام.
معسكر بدر.. حيث يتجسد الشيطان
لم يكن معسكر النصر سوى المحطة الأولى. إذ نُقل السعيدي لاحقاً إلى منشأة احتجاز أكثر قسوة وخفاء: معسكر بدر، الذي تشرف عليه ميليشيات أحمد حسن المرهبي، وهو اسم آخر يتردد بقوة في ملفات الانتهاكات بالمدينة.
وفي هذا المعسكر، تواصل تعذيب السعيدي لأسابيع وشهور، دون تهمة محددة، ودون السماح له بالاتصال بمحامٍ أو حتى سفارة بلاده، في انتهاك صارخ للقانون الدولي واتفاقيات حقوق الإنسان، بما فيها “قواعد نيلسون مانديلا” الدنيا لمعاملة السجناء.
الضباط الإماراتيون: الظل الذي يحكم من خلف الكواليس
لكن المفاجأة الأكثر إثارة في التقرير كانت التدخل الإماراتي المباشر. فقد أكدت المنصة حصولها على معلومات تثبت مشاركة ضباط إماراتيين في جلسات الاستجواب والتعذيب التي تعرض لها السعيدي. هذه المشاركة لا تكشف فقط عن اختراق صارخ لسيادة اليمن، بل تضع أبوظبي في موقف اتهام مباشر بجرائم تعذيب منهجي. ما يفتح الباب أمام تساؤلات أكبر: من يدير هذه السجون فعلياً؟ ومن يصدر أوامر التعذيب؟ وكيف تتحول مدينة مثل عدن إلى ساحة لتصفية حسابات سياسية وإقليمية؟
ردود فعل غاضبة: من التضامن إلى الاتهامات
وأثار التقرير موجة غضب عارمة على منصات التواصل الاجتماعي، حيث تصدر هاشتاغ #تعذيب_عماني_في_سجون_عدن حيث وصف الكاتب عادل الحسني رئيس منتدى السلام لوقف الحرب، الحادثة بأنها “وجه من وجوه التحالف في اليمن”، مؤكداً أن الشعب اليمني لا يعتدي على ضيف، وأن ما حدث لا يمثل اليمنيين بل يمثل “العصابة التي شوّهت صورة اليمن”.
بدوره كتب الناشط صالح منصر اليافعي: “الإماراتيين يكرهون شي اسمه عمان”، مشيراً إلى أن الإمارات تحول الجنوب إلى “سجن كبير”، وذكر أمثلة على ممارساتها المعادية لعمان. بينما كتب عبدالشافي النبهاني: “سجون عدن ليست مؤقتة ولا عابرة.. إنها مؤسسات تعذيب أنشأتها الإمارات لترهيب الشعوب”.
الصمت الرسمي والمساءلة الدولية
ولم تعلق أي من سلطات المجلس الانتقالي أو القيادات الإماراتية على هذه الاتهامات الخطيرة ما يزيد من مخاوف المنظمات الحقوقية من استمرار ثقافة الإفلات من العقاب.
ويؤكد خبراء دوليون أن هذه الحادثة تشكل جرائم كبرى بموجب القانون الدولي، بما فيها جريمة التعذيب والاختفاء القسري، وربما ترتقي إلى مستوى “جرائم الحرب” إذا ما ثبت ارتباطها بنمط منهجي واسع النطاق.
محمد السعيدي.. رمز المختفين قسرياً
السعيدي، الذي أُطلق سراحه لاحقاً بعد ضغوط شعبية وإعلامية، أصبح رمزاً لكل المختفين قسرياً في سجون عدن. وقصته ليست مجرد حكاية فرد تعرض للظلم، بل هي نموذج مصغر لآلة قمع كبرى، تديرها مليشيات محلية بدعم خارجي، وتعمل في ظلام دامس، بعيداً عن رقابة القانون أو ضمير الإنسانية.
لم تنتهِ القصة هنا، بل تفتح الباب أمام أسئلة أكبر فكم “محمد السعيدي” آخر لا يزال مختفياً في تلك الأقبية؟ ومتى ستتحمل الجهات الدولية مسؤوليتها في كشف الحقيقة وإنهاء هذه الانتهاكات؟ فالسعيدي خرج من السجن، لكن عدن لا تزال أسيرة أقبية لا ترى نور القانون.